فصل: الطرف الأول في ذكر أصولها وترتيبها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الفصل الثاني من الباب الأول من المقالة الرابعة في ذكر أصول المكاتبات وترتيبها وبيان لواحقها ولوازمها:

وفيه طرفان:

.الطرف الأول في ذكر أصولها وترتيبها:

وفيه جملتان:

.الجملة الأولى في المكاتبات إلى أهل الإسلام:

واعلم أن المكاتبات الدائرة بين المسلمين من صدر الإسلام وإلى زماننا لا يأخذها حدٌّ ولا تدخل تحت حصر.
والمشهور استعماله منها في دواوين الإنشاء على اختلاف الأزمان خمسة عشر أسلوباً.
الأسلوب الأول: أن تفتتح الكتب بلفظ من فلان إلى فلان:
قال أبو هلال العسكري في كتابه الأوائل: وأول من كتب بذلك قس ابن ساعدة الإيادي، وعلى ذلك كانت مكاتبات النبي صلى الله عليه وسلم والسلف من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم. فكان النبي، صلى الله عليه وسلم يكتب: «من محمدٍ رسول الله إلى فلان» ثم كتب أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، في خلافته: من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كتب عمر بعده: من عمر بن الخطاب خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلان، فلما لقب بأمير المؤمنين زاد في ذلك لفظ عبد الله قبل عمر، ولقب أمير المؤمنين بعده، فكان يكتب: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى فلان. ولم يزل الأمر على ذلك إلى خلافة هارون الرشيد، فأمر أن يزاد في صدور الكتب بعد فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأسأله أن يصلي على جدي محمدٍ عبده ورسوله. فجرى الأمر على ذلك في زمنه وما بعده، قال أبو هلال العسكري في الأوائل: وكان ذلك من أجل مناقبه. قال صاحب ذخيرة الكتاب: وكان الرشيد قد قال ليحيى بن خالد: إني قد عزمت على أن يكون في كتبي من عبد الله هارون الإمام أمير المؤمنين عبد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له يحيى: قد عرف الله نيتك في هذا يا أمير المؤمنين! وأجزل لك الأجر، والتعبد إنما هو لله وحده لا لغيره قال: فاكتب من هارون مولى محمد رسول الله فقال: إن المولى ربما كان في كلام العرب ابن العم، وجزى الله أمير المؤمنين خيراً عن هذه النية وهذا الفكر.
الأسلوب الثاني: أن يفتتح الكتاب بلفظ لفلان من فلان أو إلى فلان من فلان وبقية الصدر والتخلص بأما بعد أو غيرها والاختتام بالسلام وغيره على ما تقدم في الأسلوب الأول:
وقد اختلف العلماء في جواز الابتداء في المكاتبة باسم المكتوب إليه، فذهب جماعةٌ من العلماء إلى جواز ذلك، محتجين بأن الصحابة رضي الله عنهم، وبعض الملوك كانوا يكتبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم كذلك. كما يكتب إليه خالد ابن الوليد والنجاشي والمقوقس، في إحدى الروايات، على ما سيأتي ذكره في المكاتبات إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كتب أحدكم فليبدأ بنفسه، إلا إلى والدٍ أو والدةٍ أو إمام يخاف عقوبته». وعن نافع قال: كانت لابن عمر إلى معاوية حاجةٌ، فقال له ولده: ابدأ به في الكتاب، فلم يزالوا به حتى كتب: بسم الله الرحمن الرحيم، إلى معاوية من عبد الله بن عمر. وعن الأوزاعي أنه كان يكتب إلى عمر بن عبد العزيز فيبدأ به فلا ينكر ذلك. وعن سعيد بن عبد العزيز قال: كتب عمر يعني ابن عبد العزيز إلى الحجاج، فبدأ بالحجاج قبل نفسه فقيل له في ذلك فقال: بدأت به لأحقن دم رجل من المسلمين. قال سعيد: فحقن له دمه. وعن بكر بن عبد الله أنه كتب إلى عاملٍ في حاجة، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، إلى فلان من بكر فقيل له: أتبدأ باسمه؟ فقال: وما علي أن أرضي صاحبي وتقضى حاجة أخي المسلم؟ قال في صناعة الكتاب: وعلى ذلك جرى التعارف في المكاتبة إلى الإمام.
وذهب قوم إلى كراهة ذلك، لأنه مأخوذٌ عن ملوك العجم. قال ميمون بن مهران: كان العجم يبدأون بملوكهم إذا كتبوا إليهم. وقد روي عن العلاء بن الحضرمي أنه كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبدأ بنفسه. وعن الربيع بن أنسٍ قال: ما كان أحدٌ أعظم حرمةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أصحابه يكتبون إليه يبدأون بأنفسهم. وعلى ذلك جرى في نهاية الأرب فقال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمراء جيوشه يكتبون إليه كما يكتب إليهم، يبدأون بأنفسهم. وعن ميمون بن مهران أنه قال: كان ابن عمر إذا كتب إلى أبيه كتب من عبد الله بن عمر إلى عمر بن الخطاب. وعن يحيى بن سعيد القطان قال: قلت لسفيان الثوري: أكتب إلى أمير المؤمنين يعني المهدي، قال: إن كتبت إليه بدأت بنفسي قلت: فلا تكتب إليه إذن. وهذه الأقوال كلها جانحةٌ إلى ترجيح بداءة المكتوب عنه بنفسه. قال أبو جعفر النحاس: وهذا عند أكثر الناس هو الإجماع الصحيح، لأنه هو إجماع الصحابة رضي الله عنهم.
ولتعلم أن الذاهبين إلى جواز الابتداء باسم المكتوب إليه اختلفوا، فذهب قومٌ إلى أنه إنما يكتب إلى فلان من فلان كما تقدم في كتاب ابن عمر إلى معاوية، ولا يكتب لفلان من فلان. واستشهد لذلك بما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: يكتب الرجل من فلان إلى فلان ولا يكتب لفلان، وبما روي عن هشيم عن المغيرة عن إبراهيم أنه قال: كانوا يكرهون أن يكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم لفلان من فلان. لكن قد روي أن رجلاً كتب عند ابن عمر له إذن. ومقتضى ذلك أن الكراهة إنما هي لإيهام أن البسملة للمكتوب إليه، لا للابتداء باسم المكتوب إليه.
وذهبت طائفة إلى جواز أن يكتب لفلانٍ من فلان واحتج لذلك بما روي عن مالك بن أنس عن عبد الله بن دينار أن ابن عمر كتب إلى عبد الملك ابن مروان: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، لعبد الملك أمير المؤمنين من عبد الله بن عمر وهو ظاهر، فقد كانت مكاتبة خالد بن الوليد والنجاشي والمقوقس لمحمد رسول الله على ما سيأتي ذكره. وعلى ذلك كانت المكاتبة للخلفاء، فكان يكتب لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، من عماله وغيرهم لعبد الله عمر أمير المؤمنين وعلى ذلك جرى الحال في المكاتبة إلى سائر الخلفاء بعده على ما ستقف عليه في مواضعه إن شاء الله تعالى.
الأسلوب الثالث: أن يفتتح الكتاب بلفظ أما بعد:
وعليه ورد بعض المكاتبات الصادرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وعن الخلفاء من الصحابة فمن بعدهم في صدر الإسلام على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
وكانوا بعد حدوث الدعاء في المكاتبات يبتعونها بالدعاء بطول البقاء غالباً، فيقال: أما بعد، أطال الله بقاءك ونحو ذلك، ثم أضرب بعض الكتاب بعد ذلك. قال أبو هلال العسكري في كتابه الصناعتين: وكان الناس فيما مضى يستعملون في أوائل فصول الرسائل أما بعد وقد تركها جماعةٌ من الكتاب فلا يكادون يستعملونها. قال: وأظنهم ألموا بقول ابن القرية وقد سأله الحجاج عما ينكره من خطابته فقال: إنك تكثر الرد، وتشير باليد، وتستعين بأما بعد. فتحاموها لهذه الجهة. ثم قال: فإن استعملتها اتباعاً للسلف ورغبةً فيما جاء فيها من التأويل أنها فصل الخطاب، فهو حسن، وإن تركتها توخياً لمطابقة أهل عصرك، وكراهةً للخروج عما أصلوه لم تكن ضائراً. أما الآن فقد ترك الابتداء في الكتب بأما بعد حتى لا يكاد يعول عليها في الابتداء كاتبٌ من كتاب الزمان، ولا يفتتح بها مكاتبة. نعم يؤتى بها في أثناء بعض المكاتبات على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
وقد تقدم الكلام على معناها وأول من قالها في الكلام على الفواتح في المقالة الثالثة، وكتاب المغاربة ربما افتتحوا مكاتباتهم بلفظ وبعد.
الأسلوب الرابع: أن تفتتح المكاتبة بخطبة مفتتحة بالحمد لله:
وأصل هذه المكاتبة مختلسٌ من الأسلوب الأول من قولهم: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. ثم جاء عبد الحميد بن يحيى كاتب مروان بن محمد، آخر خلفاء بني أمية، فأطال التحميدات في صدور الكتب مع الإتيان بأما بعد، وتبعه الكتاب على ذلك، ثم توسعوا فيه حتى كرروا الحمد المرات في الكتاب الواحد، لا سيما في أماكن النعم الحادثة، كالفتوحات ونحوها، ثم توسع بعض الكتاب في ذلك حتى جعل الحمد لله افتتاحاً، واستمر ذلك إلى الآن. وعلى ذلك بعض المكاتبات السلطانية في زماننا، على ما ستقف على ذلك جميعه في مواضعه إن شاء الله تعالى.
ولا خفاء في أن الحمد أفضل الافتتاحات، وأعلى مراتب الابتداآت، وإن لم يقع الابتداء به في صدر الإسلام، فهو من المبتدعات المستحسنة. وحيث افتتحت المكاتبة بالحمد لله كان التخلص منها إلى المقصود بأما بعد، وربما وقع التخلص بغير ذلك، ويكون الاختتام فيها تارةً بالسلام، وتارةً بالدعاء، وتارةً بغير ذلك. قال ابن شيث في معالم الكتابة: والتحميد في أول الكتب لا يكون إلا في الكتب المكتوبة عن السلطان. قال: وغاية عظمة الكاتب أن يكرر التحميد ثانيةً وثالثةً في الكتاب، ثم يذكر الشهادتين والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: والتكرار في الحمد يكون بحسب مقدار النعمة المكتوب بسببها من فتح ونحوه.
الأسلوب الخامس: أن تفتتح الكتاب بلفظ كتابي إليك أو كتابنا إليك من موضع كذا...:
أو في وقت كذا والأمر على كذا، وتشرح القضية، وتختم المكاتبة بكتابنا إليك بنحو قولك: فإن رأيت أن تفعل كذا فعلت والمكاتبة بكتابي إليك بنحو قولك: فرأيك في كذا وما يجري هذا المجرى والأصل في هذه المكاتبة أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يكتب في بعض المكاتبات الصادرة عنه: «هذا كتابٌ من محمدٍ رسول الله إلى فلانٍ، أو إلى الجماعة الفلانيين». فلما كان أيام بني بويه في أثناء الدولة العباسية، استخرج كتابها من هذا المعنى الابتداء بكتابي إليك إذا كانت المكاتبة إلى النظير ومن في معناه، والابتداء بكتابنا إليك إذا كانت المكاتبة عمن له رتبة نون العظمة من الملوك ونحوهم، وكانوا يتبعون ذلك بالدعاء بطول البقاء نحو كتابي إليك أطال الله بقاءك أو كتابنا إليك أطال الله بقاءك. وربما عبر بهذه الخدمة وما أشبه ذلك، ويكون التخلص فيه إلى المقصد بواو الحال، مثل أن يقال: كتابي إليك والأمر على كذا وكذا ونحو ذلك، وربما وقع التخلص بخلاف ذلك. ويكون الاختتام فيه تارةً بالسلام وتارةً بالدعاء، وتارةً بغير ذلك. وكتاب المغرب عدلوا عن لفظ الاسم في كتابي إلى لفظ الفعل. مثل أن يقال: كتبنا إليك أو كتبت إليك والأمر على كذا، أو من موضع كذا.
الأسلوب السادس: أن تقع المكاتبة بلفظ كتب بصيغة الفعل:
وهذه المكاتبة كان يكتب بها عن الوزراء ومن في معناهم إلى الخلفاء.
فيكتب الوزير ونحوه: كتب عبد أمير المؤمنين أو كتب العبد من محل خدمته بمكان كذا، والأمر على كذا وكذا. وعلى نحو من ذلك يجري كتاب المغاربة في الكثير من كتبهم مثل إنا كتبنا إليكم من محل كذا أو كتبت إليك من محل كذا وما أشبه ذلك. وهذه في الأصل مأخوذةٌ من الأسلوب الذي قبل.
الأسلوب السابع: أن يقع الافتتاح بالدعاء:
والأصل في ذلك ما حكاه أبو جعفر النحاس: إن معاوية بن أبي سفيان كتب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، عند جريان الخلاف ووقوع الحرب بينهما: أما بعد عافانا الله وإياك من السوء. ثم زاد الناس في الدعاء بعد ذلك.
وقد اختلف في جواز المكاتبة بالدعاء في الجملة، فذهب ذاهبون إلى جواز ذلك كما يجوز الدعاء في غير المكاتبة، سواءٌ تضمن الدعاء معنى الدوام والبقاء أم لا. وهو الذي رجحه محمد بن عمر المدائني في كتاب القلم والدواة وإليه يميل كلام غيره أيضاً، وحكاه النحاس عن أبي جعفرٍ أحمد بن سلامة، وكلامه يميل إلى ترجيحه. أما ما يتضمن معنى الدوام والبقاء، فلما روي أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال لأبي اليسر كعب ابن علية: «اللهم أمتعنا به» قال النحاس: وذلك دليل الجواز، بل حكي عن بعضهم أن الدعاء بطول البقاء أكمل الدعاء وأفخمه، لأن كل نعمةٍ لا ينتفع بها إلا مع طول البقاء. ثم قال: والمعنى في الدعاء في المكاتبات التودد والتحبب، وقد أمر صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يكونوا إخواناً، ومن أخوتهم ود بعضهم بعضاً. وكذلك القول بما يؤكد الأخوة بينهم والمودة من بعضهم لبعض، وإذا قال له ذلك، كان قد بلغ من قلبه نهاية مبلغ مثله منه، ويكو من قال ذلك قد علم من قلبه في شأنه ما يكون من قلب مثله. وقد قال الشيخ محيي الدين النووي: من قال لصاحبه حفظاً لمودة: أدام الله لك النعم ونحو ذلك فلا بأس به.
وأما ما لم يتضمن معنى الدوام والبقاء، كالعز والكرامة، فقد روي عن كعب بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى منكم مقتل حمزة؟» فقلت: أعزك الله! أنا رأيته. وعن أنسٍ بن مالك رضي الله عنه قال: دخل جرير بن عبد الله على النبي صلى الله عليه وسلم، فضن الناس بمجالسهم فلم يوسع له أحدٌ، فرمى له رسول الله صلى الله عليه وسلم ببردته وقال: اجلس عليها يا جرير، فتلقاها بوجهه ونحره فقبلها ثم ردها على ظهره وقال: أكرمك الله يا رسول الله كما أكرمتني فقد دعا له صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك بالعز، وجرير بن عبد الله بالكرامة ولم ينكر ذلك على واحدٍ منهما.
وذهب آخرون إلى أنه لا تجوز المكاتبة بالدعاء، سواءٌ تضمن معنى الدوام والبقاء أم لا، لأنه خلاف ما وردت به السنة وجرى عليه اصطلاح السلف.
وفصل بعضهم فقال: إن كان الدعاء مما لا يتضمن معنى الدوام والبقاء نحو أكرمك الله بطاعته وتولاك بحفظه وأسعدك بمعرفته وأعزك بنصره جاز، لحديثي كعب بن مالك وجرير بن عبد الله المتقدمين. وإن كان مما يتضمن معنى الدوام والبقاء، نحو أطال الله بقاءك ونسأ أجلك وأمتع بك وما أشبه ذلك، لم تجز المكاتبة به.
واحتج لذلك بحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن أم حبيبة بنت أبي سفيان، زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: اللهم، أمتعني بزوجي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد دعوت لآجالٍ مضروبةٍ، وأرزاقٍ مقسومةٍ لا يتقدم منها شيءٌ قبل أجله ولا يتأخر بعد أجله، ولو سألت الله أن يقيك عذاب النار لكان خيراً لك. وبما روي أن الزبير بن العوام، رضي الله عنه، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: جعلني الله فداك فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أما تركت أعرابيتك بعد» فقد أنكر صلى الله عليه وسلم على أم حبيبة والزبير الدعاء بما فيه طول البقاء. وإذا امتنع ذلك في مطلق الدعاء، امتنع في المكاتبة من باب أولى، لمخالفة طرقها التي وردت بها السنة. قال حماد بن سلمة: كانت مكاتبة المسلمين من فلان إلى فلان، أما بعد، سلامٌ عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وأسأله أن يصلي على محمد عبده فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أسأله أن يصلي على محمد عبده وآل محمد حتى أحدث الزنادقة لعنهم الله هذه المكاتبة التي أولها أطال الله بقاءك.
وعن إسماعيل بن إسحاق أن أول من كتب أطال الله بقاءك الزنادقة. وقد قال الإمام الرافعي وغيره من أئمة أصحابنا الشافعية: إن الدعاء بالطليقة وهي أطال الله بقاءك لا أصل له في الشرع. قال الشيخ محيي الدين النووي: وقد نص السلف على كراهته. ونقل النحاس عن بعضهم أنه استحب تقييده بالإضافة إلى شيء آخر، مثل أن يكتب أطال الله بقاءك في طاعته وكرامته أو أطال الله بقاءك في أسر عيش وأنعم بال وما أشبه ذلك.
واعلم أن الناس قد اختلفوا في صورة الابتداء بالدعاء، فالأولون، لابتداع الدعاء في المكاتبات كانوا يفتتحو بطول البقاء للخلفاء وغيرهم، ثم توسعت الطبقة الثانية من الكتاب في المكاتبة فافتتحوا بالدعاء للخلفاء والملوك بخلود الملك، ودوام الأيام، ودوام السلطان وخلوده، وما في معنى ذلك، ولمن دونهم بعد النصر والنصرة والأنصار بدوام النعمة وخلود السعادة ومد الظل وإسباغ الظلال، وغير ذلك مما يأتي ذكره في الكلام على مصطلح كل طبقةٍ فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ثم للكتاب في الخطاب بالدعاء مذهبان: أحدهما أن يقع الدعاء بلفظ الخطاب، نحو أطال الله بقاءك، وأعزك الله، وأكرمك الله، وأدام كرامتك وسعادتك وما أشبه ذلك.
والثاني أن يقع بلفظ الدعاء للغائب مثل: أطال الله بقاء أمير المؤمنين وأطال الله بقاء سيدي وأطال الله بقاء مولانا أو أعز الله أنصار المقام أو المقر أو ضاعف الله تعالى نعمة الجناب أو أدام الله نعمة الجناب أو المجلس وما أشبه ذلك.
قال في صناعة الكتاب: وهو أجل الدعاء فيما اصطلحوا عليه. قال: ورأيت علي بن سليمان ينكر ذلك ويقول: الدعاء للغائب جهل اللغة، ونحن ندعو الله عز وجل بالمخاطبة.
الأسلوب الثامن: أن يفتتح الكتاب بالسلام:
ويقع التخلص إلى المقصود بلفظ ونبدي لعلمه أو نحو ذلك، ويقع الاختتام فيه بالسلام أيضاً، وهو منتزع من قولهم في صدر المكاتبة في الأسلوب الأول: سلامٌ عليك فإني أحمد إليك الله، تصرف الكتاب فيه فجعلوا السلام في ابتداء المكاتبة، وصاروا يبتدئونها بنحو سلام الله ورحمته وبركاته. وقد كانوا يبتدئون المكاتبة إلى الخلفاء ببغداد في الدولة الأيوبية بالديار المصرية بالسلام في بعض الأحيان، وعلى ذلك استقرت المكاتبة عن الخليفة الآن. وبه يفتتح بعض المكاتبات إلى مشايخ الصوفية، على ما سيأتي في الكلام عليه في موضعه إن شاء الله تعالى.
قال في صناعة الكتاب: وإنما قدموا السلام على الرحمة لتصرفه، لأنه من أسماء الله تعالى أو جمع سلامة. قال في مواد البيان: أو اسم للجنة كما في قوله تعالى: {لهم دار السلام عند ربهم} ثم عقب ذلك بأن قال: والسلام في هذا الموضع من السلامة، وتقديم السلامة التي تكون في الدنيا أولى من تقديم الرحمة التي تكون في الآخرة.
الأسلوب التاسع: أن يفتتح الكتاب بيقبل الأرض:
ويتخلص إلى المقصود بلفظ وينهي ويقع الاختتام بطالع أو أنهي وهذه المكاتبة مما هو موجودٌ في بعض مكاتبات القاضي الفاضل، ولم أرها فيما قبله، وكأنهم لما استعملوا في صدور المكاتبات إلى الخلفاء المكاتبة بيقبل الأرض والعتبات ونحو ذلك، استنبطوا منه ابتداء مكاتبةٍ وجعلوها لمكاتبة الرؤساء من السلطان ومن في معناه بالنسبة إلى المرؤوس. والأصل في ذلك أن تحية الملوك والرؤساء والأكابر في الأمم الخالية كانت بالسجود، كما يحيي المسلمون بعضهم بعضاً بالسلام. وقد قال قتادة في قوله تعالى حكايةً عن إخوة يوسف عليهم السلام: {وخروا له سجداً}: كانت تحية الناس يومئذ سجود بعضهم لبعض، وعليه حمل قوله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا} على أحد التفاسير، وهو المرجح عند الإمام فخر الدين وغيره من المفسرين. قال الشيخ عماد الدين بن كثير رحمه الله في تفسيره: وكان ذلك مشروعاً في الأمم الماضية ولكنه نسخ في ملتنا. قال معاذٌ يا رسول الله! إني قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لأساقفتهم وعلمائهم فأنت يا رسول الله أحق أن يسجد لك. فقال: لا لو كنت آمراً بشراً أن يسجد لبشرٍ لأمرت المرأة أن تسجد لبعلها من عظم حقه عليها. وعن صهيب: أن معاذاً لما قدم من اليمن سجد النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا معاذٌ، ما هذا؟ قال: إن اليهود تسجد لعظمائها وعلمائها، ورأيت النصارى تسجد لقسيسيها وبطارقتها، قلت ما هذا؟ قالوا: تحية الأنبياء فقال عليه السلام: كذبوا على أنبيائهم. وعن سفيان الثوري عن سماك بن هانيء قال: دخل الجاثليق على علي بن أبي طالب، فأراد أن يسجد له، فقال له عليٌّ: اسجد لله ولا تسجد لي.
فلما وردت شريعة الإسلام بنسخ التحية بالسجود وغلب ملوك العجم على الأقطار، استصحبوا ما كان عليه الأمر في الأمم الخالية، وعبروا عنه بتقبيل الأرض فراراً من اسم السجود ولورود الشريعة بالنهي عنه، واستمر ذلك تحية الملوك إلى الآن، فاستعار الكتاب ذلك ونقلوه من الفعل إلى اللفظ، فاستعملوه في مكاتباتهم إلى الخلفاء والملوك، ثم توسعوا في ذلك فكاتبوا به كل من له عظمة بالنسبة إلى المكتوب عنه، ورتبوه مراتب على ما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى. ولا خفاء فيما في هذه المكاتبة من الكراهة.
الأسلوب العاشر: أن يفتتح الكتاب بيقبل اليد وما في معناها من الباسط والباسطة:
ويقع التخلص منه إلى المقصود بما يقع به التخلص في الأسلوب الذي قبله من الانتهاء ويختم بالدعاء ونحوه.
والأصل في هذه المكاتبة أن يقبل اليد وما في معناها مما يؤذن بالتعظيم، والتبجيل والتكريم، وعلو القدر وزيادة الرفعة، مع أنه ليس بممنوع في الشريعة. فقد ثبت في الصحيحين في حديث الإفك: أنه لما أنزل الله تعالى براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قال لها أبوها: قومي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقبلي يده. ولم يكن الصديق، رضي الله عنه، ليأمرها بما هو ممنوع في الشريعة. وقد نص الفقهاء رحمهم الله على أنه يجوز تقبيل يد العالم والرجل الصالح ونحوهما، فاستعار الكتاب ذلك ونقلوه من الفعل إلى الكتابة أيضاً، كما فعلوا في تقبيل الأرض، على أن بعض الكتاب قد جعل يقبل القدم رتبة بين يقبل الأرض ويقبل اليد وما في معناه، وهو ظاهر لكنه لم يشتهر في عرف الكتاب.
الأسلوب الحادي عشر: أن يفتتح الكتاب بلفظ صدرت المكاتبة:
ويتخلص فيها إلى المقصود بلفظ وتوضح لعلمه وما أشبه ذلك. ويقع الاختتام فيها بمثل والله الموفق ونحو ذلك. وربما قيل فيها: أصدرت هذه المكاتبة أو أصدرناها.
وأصل هذه المكاتبة أنه كان يكتب في الدولة السلجوقية ببغداد، والدولة الأيوبية بالديار المصرية صدرت هذه الخدمة أو أصدرت هذه الخدمة. وربما كتب صدرت هذه الجملة فعدل عنه كتاب الزمان بالديار المصرية ومن قاربهم إلى التعبير بقولهم: صدرت هذه المكاتبة. على أن كتاب الزمان بالديار المصرية إنما أخذوها من صدور المكاتبات المفتتحة بالدعاء مثل أعز الله أنصار المقر، حيث يقال في تصديرها أصدرناها ومثل ضاعف الله نعمة الجناب وأدام الله نعمة الجناب أو المجلس وما أشبه ذلك. حيث يقال في تصديرها: صدرت هذه المكاتبة، فجعلوا الصدور ابتداء.
الأسلوب الثاني عشر: أن يفتتح الكتاب بلفظ هذه المكاتبة:
ويتخلص منها إلى المقصود بنحو ما وقع التخلص به في الأسلوب الذي قبله، ويقع الاختتام بمثل ما وقع به اختتامه.
وهذه المكاتبة مأخوذة في الأصل من ابتدائهم في الأسلوب الخامس بلفظ: كتابي إليك وما في معناه، على أن كتاب الزمان إنما أخذوا ذلك من المكاتبة التي قبلها، فجعلوا بعض الصدر فيها ابتداء، كما جعلوا جميع الصدر ابتداءً في الأسلوب الذي قبله.
الأسلوب الثالث عشر: أن يفتتح الكتاب بالإعلام:
كما يكتب كتاب الزمان: يعلم فلانٌ أن الأمر كذا وكذا والاختتام فيها بمثل الأسلوبين اللذين قبلها ولا تخلص فيها، لأن الافتتاح فيها موصل إلى المقصود. على أن الصواب إثبات اللام في أولها، بأن يقال: ليعلم فلان لأن لام الأمر لا يجوز حذفها على ما تقرر في آخر المقالة الثالثة. وعلى ذلك كتب غازان أحد ملوك بني جنكزخان ببغداد وما معها إلى الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب الديار المصرية، وكتب الجواب عن الملك الناصر إليه كذلك، على ما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
الأسلوب الرابع عشر: أن يفتتح الكتاب بلفظ يخدم:
مثل يخدم الجناب أو يخدم المجلس وما أشبه ذلك. ويكون التخلص منها بمثل: وينهي أو ويبدي ونحو ذلك، ويقع الاختتام فيها بالدعاء.
وهذه المكاتبة كانت مستعملةً في مكاتبات الفاضل بقلة، وتداولها الكتاب بعد ذلك إلى أن صارت مستعملةً بين الكتاب في المكاتبات الدائرة بين أهل الدولة في زماننا، ثم رفضت بعد ذلك وتركت حتى لم يستعملها منهم إلا القليل النادر.
الأسلوب الخامس عشر: أن يفتتح الكتاب بلفظ الخلافة أو المقام الذي شأنه كذا أو الإمارة التي شأنها كذا:
مثل خلافة فلان أو مقام فلان أو إمارة فلان وما أشبه ذلك. ثم يقع التخلص في ذلك بمثل: معظم مقامها يخصها بسلامٍ صفته كذا ويبدي لعلمها كذا وما أشبه ذلك. ويقع الاختتام فيها بالسلام، وهذا الأسلوب مما اختص به كتاب المغرب لا سيما المتأخرون منهم، على ما سيأتي ذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.
قلت: ووراء هذه الأساليب أساليب أخرى لكتاب أهل الشرق والغرب بالديار المصرية في الأزمنة المتقدمة، لا يأخذها المتقدمة، لا يأخذها حصر، ولا تدخل تحت حد، وأكثر ما تكون في الإخوانيات، وسيأتي ذكر الكثير من أنواعها في مواضعها فيما بعد إن شاء الله تعالى.